النقاش السياسي بين منطق الفضيحة ومنطق المؤسسة: قراءة تحليلية .....
الأنوال نيوز:بقلم ابوبكر الفقيه التطواني
يشهد النقاش السياسي في المغرب خلال الأشهر الأخيرة تحوّلاً لافتاً، إذ أصبح الفضاء العمومي يعيش على إيقاع انفجار يومي للمعطيات والاتهامات المرتبطة بالصفقات وتضارب المصالح. تتناسل الأخبار بسرعة تضاهي سرعة تلقيها، ويجد الرأي العام نفسه مشدوداً إلى مشاهد متلاحقة لا يتّضح دائماً مدى دقتها أو سياقات تداولها. هكذا انتقل الخطاب من لغته المؤسساتية الهادئة إلى لغة مشحونة بالإثارة، تُقدّم فيها الشخصيات قبل السياسات، والاتهامات قبل الوقائع، والفُرجة قبل التحليل. وفي خضم هذا التحول، يصبح القلق من الفساد ـ وهو قلق مشروع في أي نظام ديمقراطي ـ جزءاً من الإشكال ذاته حين يتحول إلى مادة للجدل أكثر منه مناسبة للإصلاح.
إن جانباً من هذا التحول يرتبط بطريقة بناء الخطاب: فهناك اتجاه يوظف الحسّ الأخلاقي العام ويُراهن على قوة الأسئلة التي يطرحها الناس -من المصلحة؟ من المستفيد؟ أين الشفافية؟ هل هناك تضارب مصالح؟-وهي أسئلة حارقة تجد صداها بسهولة لدى الجمهور. هذا الاتجاه يعتمد لغة مشدودة الإيقاع، تقوم على إثارة الانتباه ورفع منسوب التحذير، وتتعامل مع كل معلومة حول صفقة أو قرار إداري باعتبارها مؤشراً على أزمة أعمق في تدبير الشأن العام. وهو خطاب يجد قوته في انطلاقه من شعور اجتماعي واسع بأن مراقبة المال العام ليست رفاهية سياسية، بل واجباً مدنياً وأخلاقياً.
لكن هذا الخطاب، على قوته التعبوية، يواجه تحدياً حقيقياً: فالمبالغة في تحويل كل شبهة إلى قضية، وكل اختلاف إداري إلى اتهام، يمكن أن تفرغ النقاش من محتواه، وتعمّق الإحساس بوجود فساد شامل حتى في الحالات التي لم تُستكمل فيها إجراءات التحقق. . لذلك تبدو الحاجة ملحّة إلى الحسم بين النقد الذي يفتح باب المحاسبة، والنقد الذي يتحول إلى مادة فرجوية تستنزف النقاش العمومي.
في المقابل، هناك اتجاه آخر يواجه هذه الموجة بإعادة النقاش إلى مرجعيته القانونية والإجرائية. فهو يستند إلى الوثيقة، والمساطر، والهيئات المختصة، ويُقدِّم كل الاتهامات كادعاءات تحتاج إلى التحقق قبل إصدار الأحكام. ويحرص هذا الاتجاه على حراسة لغة الحوار من الانزلاق إلى القدح أو التشهير، مفضّلاً خطاباً تقنياً يركّز على كيفية اشتغال الإدارة العمومية وعلى الضمانات المنصوص عليها لتفادي تضارب المصالح.
إلا أن هذا الخطاب بدوره يواجه إشكالاً لا يقل أهمية: فالتشبث بالمساطر، من دون مرافقة تواصلية فعّالة وواضحة، قد يبدو في عين الرأي العام محاولة لتعقيد النقاش أو إفراغه من محتواه السياسي. فالمواطن اليوم لم يعد ينتظر البيانات الرسمية فحسب، بل ينتظر سردية مفهومة وشفافة تشرح ما جرى، وكيف جرى، وما هي الضمانات التي تمنع تكرار أي تجاوز. لقد أصبح التواصل الحكومي ـ أو المؤسسي عموماً ـ ركناً أساسياً في بناء الثقة، وليس مجرد تعليق لاحق للأحداث.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام مشهد تتقاطع فيه مقاربتان: مقاربة تُراهن على إثارة الأسئلة الأخلاقية، ومقاربة تُعيد النقاش إلى قنواته المؤسساتية. وبينهما تبرز إشكالية أعمق تتعلق بكيفية إدارة الجدل العمومي، وليس فقط بموضوعاته. فالسؤال لم يعد: هل هناك شبهات في الصفقات؟ بل: كيف نتداول هذه الشبهات؟ كيف نبني رواياتنا؟ كيف نمنح الرأي العام حقه في الفهم من دون أن نغرقه في العناوين الصاخبة؟ وكيف نُقيم التوازن بين مسؤولية النقد ومسؤولية البناء؟
إن ما يعيشه المغرب اليوم، على الرغم من توتره الظاهر، يمثل فرصة حقيقية لتحويل النقاش السياسي إلى رافعة لإصلاح قواعده. فتعزيز الشفافية في تدبير الصفقات، ونشر المعطيات، وتفعيل التصريح بالمصالح، وتحديث أدوات الرقابة، وتجويد قنوات التواصل، كلها خطوات كفيلة بأن تنقل النقاش من دائرة الشبهة إلى دائرة الثقة. كما أن الانضباط في الخطاب، والابتعاد عن الشخصنة، يمنح السياسة ما تحتاجه من وقار، ويحميها من الانزلاق إلى منطق الاستعراض.
في جوهر الأمر، لا يتعلق المشهد بصراع بين أطراف، بل بصراع بين طريقتين في فهم السياسة: هل السياسة صرخة أخلاقية؟ أم هي لغة المساطر؟ أم هي التوازن الدقيق بينهما؟ الإجابة التي ستتشكل في المرحلة المقبلة—وهي مرحلة انتخابية بامتياز—ستحدد ملامح الثقة العامة، وترسم حدود العلاقة بين الدولة والمجتمع. وإذا نجح الفاعلون في الانتقال من «منطق الفضيحة» إلى «منطق المؤسسة»، فإن السياسة ستستعيد دورها الطبيعي: فضاءً للتفكير العمومي، لا مرآةً للضجيج اليومي.

تمرير قانون المالية 2026 بأغلبية شكلية يحوّل النقاش المالي إلى واجهة للخطاب السياسي
بيروت: الملتقى الـ 11 للرابطة العربية لعلوم الإعلام يرسم ملامح مستقبل الاتصال في عصر الذكاء الاصطناعي
فوز بطعم الشخصية …بقلم: عبد الهادي الناجي
فرع تمارة لجنة قضايا المرأة والمجتمع .. مائدة حول العنف ضد المرأة مستديرة
أوكي..